Aller au contenu principal

تحسين مرفقنا العمومي هو الطموح والهدف لكن كيف؟ وعبر أي مسلك؟

arton131

لا يغيب عن القارئ الموقر الدور المهيمن الذي تلعبه المرافق العمومية في خلق البيئة المناسبة لنمونا الاقتصادي والاجتماعي والحفاظ عليها، كما لا يفوته أن هذه المرافق نفسها هي التي تجسد في أرض الواقع سياسات الدولة في جميع الميادين نذكر منها تجاوزا فرض الأمن وحفظ النظام والاستقرار والتعليم والصحة والسهر على خدمة المواطن في جميع تفاصيل حياته اليومية، فأيٌ من هذه يمكنك الاستغناء عنها قارئي الكريم؟

هذا الدور المحوري هو الذي جعل القائمين على الشأن العام يكرسون كل جهد لتحسين أداء تلك المرافق وبذل الجهد تفكيرا وبحثا عن أيسر السبل المجربة لتحقيق ذلك الهدف تمشيا مع توجيهات رئيس الجمهورية. إن الطموح إذن هو جعل المرفق العمومي دائما أكثر نجاعة وفعالية لكن السؤال المطروح هو: كيف نقوم بذلك؟ وعبر أي طريق يُسلك؟

في الفقرات التالية تُسلط الأضواءُ على بعض سبل التسيير العمومي المجربة هنا وهناك عبر العالم لعل التعرف عليها يساعد على العثور على بعض عناصر الحل لهذه الإشكالية.

بعض التجارب المضيئة
عرفت جهات عديدة من العالم على مدى الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية ميلادَ وتطور العديد من محاولات تحسين نوعية المرافق العمومية. وقد جاءت هذه المحاولات تعبيرا عن انتقال تدريجي للتسيير في القطاع العمومي من منطق الوسائل إلى منطق النتائج وكانت متأثرة في معظمها بمبادئ معايير الجودة التي تعود في أصلها إلى القطاع الخصوصي.

ستُخضع الفقرات التالية للأضواء تجربتين رائدتين هما التجربة الفرنسية وتجربة إمارة دبي بالإمارات العربية المتحدة.
فيما يخص تجربة دبي فقد كانت لي الفرصة للإطلاع عليها عن قرب عندما شاركت في ندوة حول تبادل التجارب الناجحة منظمة في شهر مارس من العام 2015 من طرف المنظمة العربية للتنمية الإدارية في دبي بالإمارات العربية المتحدة. هذه التجربة مكنت دبي بحق من الانتقال من صفة القرية الصغيرة المغمورة في رمال الصحراء سنة 1970 إلى موزع خدمي متعدد الخدمات يمكن مقارنته بلكزمبورك في أوربا أو صنغافورة في آسيا الجنوبية الشرقية.
أما فيما يخص التجربة الفرنسية فلم تكن لي فرصة دراستها عن كثب غير أنني استطعت الحصول على أفكار عنها ذات مصداقية وذلك من خلال المعلومات التي جمعتها من هنا وهناك عبر شبكة الإنترنت.
تجربة دبي
وضع القائمون على القطاع العمومي في دبي موضع التنفيذ برامج رائدة لتحسين التسيير في القطاع العمومي مستلهمة من النموذج الأنكلوسكسوني يطق عليها محليا انظمة قيادة التميز في القطاع العمومي في دبي. تأخذ هذه البرامج أشكالا متعددة نتعرف عليها فيما يلي مع بشرى فنينو في مقال لها تحت عنوان "استخدام أدوات الرقابة والتسيير في إدارة التهذيب في دبي"

• "وضع أهداف ومؤشرات الأداء: حيث لكل إدارة مهام محددة وأهداف إستراتيجية مع هدف نهائي للوصول إلى رؤية دبي وهي أن تكون الرقم الأول عالميا. وتساعد جملةُ من المؤشرات على متابعة الأهداف الإستراتيجية لتلك الإدارات وبذلك تتم تنمية ثقافة النتائج وبث روح المسؤولية لدى الفاعلين (accountability). وللمزيد من التحكم الجيد تم استخدام ما يعرف بلوحة التحكم الاستشرافية (balanced scorecard) .

• "الانتقال من منطق الوسائل إلى منطق النتائج: حيث قامت إدارة دبي بإصلاح لتسيير ميزانيتها وذلك بوضع ميزانية البرامج سنة 2009 التي تربط الأهداف الإستراتيجية بالوسائل المالية.

• "التنافس الداخلي والقياس مع المماثل الخارجي (benchmarking): يحتل المسعى نحو التميز مكانة هامة في إدارة دبي، وفعلا، تشارك كل إدارات دبي في المسابقة لنيل جائزة التميز التي يمنحها برنامج دبي للتميز الحكومي وهي تسعى منذ 1997 إلى احتلال المراكز الأولى. هكذا تم خلق مناخ من التنافس الإيجابي مع تقاسم الجميع لأفضل الممارسات (الكحلول، 2010) وحيث يستخدم الجميع أيضا القياس ليقارن كل مسارات عملياته وممارساته ونتائجه مع كل ذلك لدى المنظمات المحلية والدولية الأخرى.

• "مضاعفة عمليات التدقيق ومنح شهادات التطابق مع معايير الجودة: حيث تتم المراجعة الداخلية والخارجية (الرقابة المالية من طرف قسم التدقيق المالي (FAD)، ورقابة التميز من طرف برنامج دبي للتميز الحكومي) والهدف من كل ذلك مراقبة أداء الإدارات في دبي للتحسين منه مع العلم أن هذه الإدارات كلها تسعى مسعى الجودة ومعظمها حاصل على شهادة المطابقة مع المعايير القياسية(ISO) ( ) .

• "إدخال أنظمة التحفيز المرتبطة بالأداء الفردي : ويتعلق الأمر هنا بوضع إدارات دبي منذ 2008 لبرنامج يعرف باتفاق الأداء الفردي(IPA) ويقوم على تقييم ومكافأة الأداء الفردي حيث يتم تقييم أداء الأفراد على أساس الوصول إلى الأهداف (70%) وعلى الكفاءة المهنية (30%) ونظام التحفيز عموما يرتكز على أساس الاستحقاق..."

التجربة الفرنسية
تبنت فرنسا تدريجيا في إطار بحثها عن التوازن في ميزانيتها منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي مجموعة من المساعي نحو الجودة تتأثر كلها بمبادئ إدارة الجودة. ويتمثل الهدف منها في التخفيض من المصاريف وزيادة الكفاءة والفعالية في تسيير القطاع العمومي والتحسين في نفس الوقت من نوعية الخدمات المقدمة للمراجعين.
وللوصول إلى هذا الهدف اعتمد الفرنسيون حزمة من الإجراءات أمكن التعبير عنها فيما يلي:
دوائر الجودة التي تم اعتمادها منذ 1987 في إطار البرنامج المعروف بـ (Qualité France). ظهرت هذه الدوائر في مؤسسات عمومية عديدة ووزارات ومرافق بلدية. وهي عبارة عن مجموعات من الوكلاء المتطوعين الذين يقومون بتحليل مشاكل وحداتهم بغية إيجاد الحلول المناسبة لها وذلك بعد أن يتلقو التدريب اللازم لذلك. والهدف المنشود في النهاية هو تحفيز الوكلاء وتحسين نوعية الخدمة المقدمة للجمهور( ).
مثل هذه المساعي انتشرت فيما بعد وخاصة منذ 1994 في جميع مستويات جهاز الدولة وذلك تحت تأثير رسائل التعميم الموجهة من طرف مختلف الوزراء الأُول، أدوار بالادور وألان جيبى واليونل جوسبان. ويمكن أن نذكر منها ما يلي:
• إلتزامات الخدمة: في إطار هذا المسعى ينشُر المرفق العمومي عبر وسائل الإعلام إلتزامات محددة قابلة للقياس فيما يخص نوعية الخدمة المقدمة. قامت مؤسسات ومرافق عمومية عديدة موجودة تحت وصاية الدولة بتقديم إلتزاماتها للمراجعين. وعادة ما تحدد المرافق المعنية فترة كافية لتستعد للوفاء بالتعهد وفي نهاية تلك الفترة يتم العمل بموضوع الالتزام.
• الشهادة والاعتماد: يتحتم على الإدارات السائرة في طريق البحث عن الجودة أن تجعل من نفسها موضوعا لفحص جهة أخرى لتؤكد ما إذا كانت ملتزمة بمعايير الجودة حسب المعيار القياسي. والمعيار الذي على أساسه تتم الشهادة أو الاعتماد والذي بُنِيت على أساسه معايير الجودة الأخرى هو
معيار الإيزو 9001.

• مواثيق الاستقبال: وهي التزامات مكتوبة تعدها المرافق العمومية فيما يخص نوعية استقبال الجمهور وتتعهد باحترامها سواء كان ذلك الاستقبال ماديا أو تلفونيا أو مكتوبا أو عن طريق الإنترنت. ميثاق الاستقبال المدعو ميثاق ماريان قد تم العمل به في مرافق الدولة الفرنسية ابتداء من الثالث من فبراير 2005 وقد تبعتها ماركة ماريان (Mariane label) فبراير من العام الموالي.

• إطار التقويم الذاتي للوظائف العمومية: وهو وثيقة معدة من طرف مجموعة من الخبراء بطلبٍ من مجلس الوزراء الأوربي ويقترح مرجعا شاملا للتقييم الذاتي لمسيري القطاع العمومي. وقد نُشر رسميا في فرنسا سنة 2002.
• القانون العضوي المتعلق بقوانين المالية: تمت المصادقة على هذا القانون في الفاتح من أغشت سنة 2001 وأصبح ساري المفعول في الفاتح من يناير سنة 2006. ويمثل هذا القانون منعطفا بالنسبة للتسيير العمومي التقليدي. حيث أصبحت الميزانية انطلاقا منه تُبنى في شكل برامج تقاس نجاعتها وفعاليتها بمؤشرات النتائج.

هل من شأن الفروق الموجودة بيننا وبين أصحاب التجارب المذكورة أن تمنعنا من الاقتباس منهم؟

تحت تأثير الانبهار بالنتائج العظيمة لتجربة دبي على وجه الخصوص قلت لنفسي: " هذا هو ما ينبغي لنا إتباعه لتحديث إدارتنا العمومية" غير أنه مع الزمن وبعد التفكير مليا بشأن التجربتين رأيت أنه من الحكمة التريث في الحكم والتفكير في الفروق القائمة على مستوى الطبيعة والسياقين السياسي والتارخي بين بلادنا وكل من البلدين المعنيين وهي فروق كفيلة بدون شك بإنجاح التجربة هناك وإفشالها هنا.
توجد فروق بين موريتانيا ودبي أولا على مستوى الحجم : مدينة دولة إلى جانب دولة تعادل مساحة فرنسا أربع مرات، وعلى مستوى الوضع السياسي: مدينة دولة مستقلة ذاتيا في إطار مجموعة إمارات متحدة إلى جانب دولة مستقلة وذات سيادة، وأخيرا على مستوى السياق التاريخي: مستعمرة بريطانية سابقة ذات تقاليد أنكلوسكسونية إلى جانب مستعمرة فرنسية سابقة ذات تقاليد افرانكوفونية.
هذا إلى جانب الفروق على مستوى الموارد المتوفرة حاليا في البلدين وإن كانت مرشحة للاختفاء في أي وقت نظرا لطبيعة باطن أرضنا الخصبة حسب المؤشرات وحيث يتكثف نشاط الإستكشاف المعدني.
وبالمقابل، هناك إلى جانب تلك الفروق سمات مشتركة لافتة بين البلدين: دولتان فتيتان صحراويتان تبنتا في الماضي أسلوب حياةٍ بدوي وتفتقران إلى تجربة الدولة المركزية في الفترة السابقة لاستعمارهما.

الفروق بين موريتانيا وفرنسا: إذ كانت فروق جوهرية تفصل موريتانيا عن فرنسا فإن تقاليد ذات جذور عميقة تجمع بينهما.
وحتى لو رجحت كفة الفروق على كفة مواطن التشابه، فهل من شأن ذلك أن يمنعنا من تبني أدوات للتسيير نرى أنها ناجحة؟ ألا يمكننا أن نقتبسها من دبي أو من فرنسا أو من أي بلاد أخرى كما اقتبستها دبي من أمريكا أو بريطانيا؟ أليس بإمكاننا أن نوطنها شيئا فشيئا أثناء العمل بها في الميدان؟

الخلاصة:
ونخلص هنا أنه دون تقديم توصية بعينها لتبني هذه التجربة أو تلك من التجربتين المدروستين أعلاه أعتقد أنه من حقنا ونحن نبحث عن حلول لصعوبات قطاعنا العمومي أن نستعرض كافة التجارب الناجحة في العالم وأن نتبنى منها ما نراه متكيفا مع سياقاتنا الوطنية.
ولا نرى في ذلك ما يخدش كبرياءنا الوطني. أولا تتخلل تاريخ الحضارات العالمية أمثلة ناصعة لعمليات الاقتباس والتبني والتملك المتبادل أي الأخذ والعطاء بين الأمم في مختلف البيئات؟ أولم يكن رافد حضارتنا العربية الإسلامية في القرون الوسطى أساسا لازدهار حضارة الغرب المسيحي في العصر الحديث؟

سيد أحمد أحمد جد
المدير العام المساعد لعصرنة الإدارة